حوار مع الشاعرة سلمى الخضراء الجيّوسي | أرشيف

الشاعر الفلسطينيّة سلمى الخضراء الجيّوسي (1926 - 2023)

 

المصدر: «أدب ونقد».

زمن النشر: 1 كانون الثاني (ديسمبر) 1986.

الكاتب: أحمد جودة.

 


 

كانت قضيّة ’الشعر والتراث‘ من أهمّ القضايا الّتي دخلت مجال الدراسات النقديّة الأكاديميّة مبكّرًا منذ الخمسينات، وأصبحت مثار اهتمام لكثير من نقّادنا العرب. فقد شاع استخدام الشاعر العربيّ الحديث للتراث على مستويات عديدة منها الحدث التاريخيّ، الأسطورة، الشخصيّة، التراث الدينيّ، التضمين الشعريّ والتراثيّ... إلخ.

ونجح شعراء عديدون في الوصول إلى قرّائهم من بوّابة الاستخدام التراثيّ، وظهر للوهلة الأولى أنّ آفاق تطوّر ’الشعر الحرّ‘ وخروجه من أزمته الراهنة تتّسع عبر استخدامه للتراث بتنويعاته المختلفة، ليدخل من أوسع الأبواب إلى عالم ’الدراما الرحب‘.

من هنا، كان هذا الحوار مع الشاعر الفلسطينيّة المعروفة سلمى الخضراء الجيّوسي (1926 - 2023) حول ’الشعر والتراث‘.

 

أحمد جودة: ترى، ما تقييمك لاستخدام الشاعر الغربيّ الحديث للتراث بمستوياته المتنوّعة: الشخصيّة، الأسطورة، الموقف التاريخيّ... إلخ، في بناء القصيدة الحديثة؟

سلمى الجيّوسي: اكتسبت بعض القصائد الحديثة سمة ’الدراميّة‘ من استخدام الشاعر في بنائها للتراث، بيد أنّ الاستعمال الحديث السائد في القصائد المعاصرة هو استعمال الشخصيّة التاريخيّة، والزمن الأسطوريّ، أي الزمن الّذي يكرّر نفسه في الأمّة، بمعنى أنّ الوضع العين شيء لصيق بالثقافة العربيّة، ويكرّر نفسه فيها تكرارًا يكاد يكون حتميًّا من عصر إلى عصر، وهذا يشير إلى عدم انقطاع مع الماضي وإلى استمراريّة الماضي في الحاضر.

غير أنّ سلبيّة هذا الاستعمال تتمثّل في أنّ ’الوضع‘ المعيّن الّذي ينتجه الشعراء عادة كان وضعًا يُظْهِر ناحية سلبيّة، يعتقد الشاعر أنّها موجودة في التراث الروحيّ والأخلاقيّ العربيّ، حتّى عندما كانت الشخصيّة المنتخبة شخصيّة نبيلة مثل الحلّاج... انتخاب الشاعر العربيّ لشخصيّة الحلّاج لم يكن بالدرجة الأولى لكي يمتدح بسالة هذه الشخصيّة في صراعها مع الظلم والتعصّب، وضيق الأفق وقمع الحرّيّات، بل لكي يذمّ المواقف القمعيّة والاستبداديّة الّتي مارستها السلطة، ليس فقط في عصر الحلّاج، ولكن عبر كلّ العصور العربيّة امتدادًا إلى عصرنا، والحقيقة أنّ الهدف هو ’كشف القناع‘ عن مظالم عصرنا هذا، وعن استبداد السلطان فيه بالإنسان، ومصادرة حرّيّته وحقّه في أن يختار موقفه من الحياة والأشياء.

 

جودة: لكن، هل تعتقدين أنّ استعمال الشعراء لما تسمّيه ’الزمن الأسطوريّ‘ كان استعمالًا ناجحًا؟

الجيّوسي: نعم... كان ناجحًا إلى حدّ كبير، مثل استعمال عبد الصبّور للحلّاج، أعتقد أنّه كان ناجحًا وموفّقًا للغاية، غير أنّ بعض الشعراء في بحثهم عن الطرافة استعملوا شخصيّات عاشت في الماضي لكنّها غير تاريخيّة، أي أنّها لم تترسّخ في السياق التاريخيّ، ولم تصبح جزءًا من المعرفة التاريخيّة لأيّ عصر من العصور الماضية، وبالتالي لا وجود لها في الوجدان التاريخيّ عند القارئ. مثلًا، استعمال البيّاتي لشخصيّة ’عائشة‘ الّتي قال عنها حبيبة ’عمر الخيّام‘، وأنّها ماتت ولم يكتب عنها الخيّام حرفًا. هي إذن شخصيّة عاشت وماتت مثل الملايين، فلماذا بعثها الآن؟

 

جودة: لكن، هل ’الشهرة‘ فقط هي الشرط الوحيد لإمكانيّة نجاح استخدام ’الشخصيّة‘ في القصيدة الحديثة؟

الجيّوسي: لكي يكون للشخصيّة التاريخيّة معنى ومغزى في الشعر، يجب أن تكون قد اتّصفت بصفة أو عمل مهمّ من الممكن الرمز إليه، أو أن تكون قد مرّت بتجربة مهمّة يشعر الشاعر بأنّ الإيماء إليها له غاية.

كما يجب – عند استخدامها – أن يكون الوصف الّذي يحيطها به الشاعر حقيقيًّا وحيًّا في الذاكرة العربيّة المعاصرة، ولذا، فإنّ إيماء نزار قبّاني لهارون الرشيد بأنّه كان متهافتًا على الملذّات، وبأنّه كان ديكتاتورًا وظالمًا إيماء غير صائب، لأنّه لا ينطبق على الصورة الّتي نحملها نحن لهارون الرشيد.

الحقيقة التاريخيّة الصافية ليست هي القضيّة، المهمّ ما نحمله نحن من صورة أو فكرة أو انطباع عن هذه الشخصيّة، مثلًا، نحن نعرف عن الحجّاج بن يوسف أنّه رجل سفّاح شديد الظلم... إلخ. لذلك، فإنّنا نتفاعل مع استعمال الشاعر لشخصيّة الحجّاج كرمز للبطش والقمع والطغيان، أمّا حقيقته التاريخيّة فقد تكون مختلفة؛ فهناك حزمه، فصاحته، قدرته على الإدارة. هذه أمور لم تعلق بذاكرتنا، ولو قام شاعر واستعملها الآن، فإنّه يصدم رؤيانا لهذه الشخصيّة، ولا يمكن للقصيدة تلك أن تنجح.

 

أحمد جودة: وماذا عن استخدام الشاعر العربيّ الرمز الدينيّ؟

الجيّوسي: استخدام الشاعر للرمز الدينيّ كفيل بأن ينجح عند القرّاء إجمالًا، لأنّ الضمير الدينيّ يجثم على وعي أغلب الناس، لكنّ الشعر العربيّ الحديث إجمالًا شعر علمانيّ وغير متديّن، لا سيّما الشعر الّذي يعتبر نفسه حديثًا، فهو لا يؤمن بالديانات بطريقة عقائديّة. أذكر قصيدة كتبها أحد الشعراء المصريّين عام 1959 وألقاها في مهرجان الشعر الأوّل بدمشق، وأنت تعرف أنّ الخمسينات كانت ذروة عنفوان المدّ القوميّ العربيّ، لكنّ هذه القصيدة، وكان لها مرتكز دينيّ، نجحت نجاحًا منقطع النظير بين جمهور المستمعين.

 

جودة: وماذا عن استخدام الشاعر للأسطورة؟ ومتى ينجح هذا الاستخدام؟

الجيّوسي: استعمال الشاعر لأيّ أسطورة – إذا كانت حيّة في وجدان الشعب وفي ذاكرته، ويراعي الشاعر في استعمالها المعنى الّذي يحمله القارئ – كان استعمالًا ناجحًا، لأنّه يختصر الكثير من الشرح والكلام.

أمّا استعمال شعرائنا للأساطير الفينيقيّة والإغريقيّة، فقد كان – في رأيي – مصطنعًا، وقد أُقْحِم إقحامًا في الشعر، لأنّ القارئ كان مجبرًا أن يدرس الأسطورة في الكتب لكي يفهم القصيدة، ولذا، فإنّ هذا الاستعمال لا يمكن تسميته استعمالًا أسطوريًّا، بمعنى أنّه يوجد اتّصالًا حميمًا بالقارئ وبتراثه، ما دامت هذه أسطورة ليست من موروث هذا القارئ الروحيّ والقصصيّ.

 

جودة: إذن، فأنت ترفضين أن يستخدم الشاعر أساطيرًا أجنبيّة، أو غير معروفة للقارئ سلفًا في شعره؟

الجيّوسي: حديثي السابق لا يعني أنّ الشاعر غير مسموح له باستعمال ما يريد، الشاعر حرّ في تطعيم شعره بكلّ ما يظنّ أنّه ملائم، لكنّ استعماله عندئذ لا يكون استعمالًا أسطوريًّا، وأظنّ أنّه لن ينجح في الوصول إلى قرّائه.

 

جودة: هناك مَنْ يرى أنّ أزمة الشعر العربيّ المعاصر تتمثّل في عدم رغبته، وربّما عدم قدرته، على الخروج من إطار الغنائيّة إلى آفاق الدراميّة...

الجيّوسي: أن يكون الشعر دراميًّا، فهذا تطوّر للشعر، لكنّني لا أوافق على موقف عدد من النقّاد العرب من الشعر الغنائيّ، فأحسن شعر في الألم شعر غنائيّ، بمعنى أنّه متّصل بوجدان الشاعر وبتجربته الذاتيّة، والشعر الغنائيّ ليس ضدّ الدراما/ الصراع، لكنّه في جوهره موقف جماليّ من الحياة والكون.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.